الثلاثاء، 4 يناير 2022

موريتانيا : ميزات فصل الخريف في ربوع الوطن



الخريف الموريتاني


يعتبر «الخريف»، ويطلق في موريتانيا على «فصل الربيع»، الذي يبدأ في يوليو/‏‏‏ تموز، أروع فصول السنة هناك بلا منازع، ففيه تتساقط الأمطار وتتحول الصحراء إلى جنة ساحرة خضراء وغدران صافية كأنها مرايا يتجمل الأفق بالنظر فيها. إنه الفصل الذي يكتبُ وصفاته الخاصة للعيون لمشهدية أسطورية تخلب الألباب على شكل تلال ووهاد وروابٍ وجبال وأودية ومسطات خضراء.

 

وكتب الكثيرون شعراً ونثراً عن «فصل الخريف» في موريتانيا، سواء تعلق الأمر بفائض ثروته من لحوم أوألبان، أو ثروته الجمالية حين تكون الطبيعة في أعلى دورات الكمال البيئي على مرّ القرون أنتج الموريتانيون أشعاراً وتقاليد تخلد هذا الفصل الذي يرمز لتوأم الوفرة والجمال، عندما يتعلق الأمرُ بكنوز من آلاف المرويات التي لم توثق بعد، يثير ذلك قلق المهتمين بتراث مجتمع الفضاء الصحراوي.


في هذا التحقيق، نسلّطُ الضوء على أحد كنوز فصل الخريف في موريتانيا، كنز لم ينضب بعد، لكنه يكاد يفقدُ الكُثير من طقوسه وتقاليده ومروياته حمّو».. دليل «السياقة المثقفة» في الصحراء.. إنه ليس مجرد سائق عادي.. إنه يستخدم سيارته لنقل زبائنه إلى حيثُ يتوفر لهم «لبن الخريف» في أفضل الأجواء. 

 

قبل أنْ نترك للسائق «حمُّو» الفرصة لعرض مهاراته فيما يسميه «السياقة المثقفة»، يجب التذكير بأن موريتانيا تملك ثروة حيوانية تقدر ب 20 مليون رأس من الماشية، تنتج كميات هائلة من الألبان في فصل الخريف، لكن أغلبها يتم هدره بسبب بعد مناطق الرعي عن المدن، ومناطق تجمع السكان، وعدم وجود مصانع كافية لاستيعاب «الذهب الأبيض».


يقول الكاتب الموريتاني الشهير محمد فال ولد عبداللطيف: «هذه مواشينا تدر في فصل الخريف وغيره من خالص اللبن الأبيض، كميات تضيق عنها الملابن والمحاقن، فيكون مآلها إلى أن تراق على الأرض، أما اللبن فإننا نضيعه في الخريف، ونحتاج إليه في الصيف، أفي ذلك شك: إننا ننتج منه سنويا ما يكفينا ويكفي الدول المجاورة لنا والدول المجاورة لها؟ ولكننا ما زلنا ضالين عن الصيغة التي يمكن أن نختزن بها هذا الذهب الأبيض لأيام الضراء» وهكذا فرغم العشرين مليون رأس من الماشية، فإنه من الغريب أن موريتانيا تبقى مستوردة للألبان الصناعية، وكان يمكن أن تكون المنتج الأول لها في المنطقة. 

 

أين يهدر فائض ألبان الخريف، نعود لولد عبد اللطيف الذي يصف ذلك بقوله: «في بعض ولاياتنا الداخلية يكون للرجل الواحد تسعة وتسعون ضائنة تتبعها حملانها لا يأخذ من لبنها نُغبة واحدة، وإنما يتركها لبناتها لا تفطم حتى تلد أمهاتها الجيل الجديد، أما البقر فلا تسأل عن البقر، يفيض لبنه زمن الخريف، حتى أنه لتحفر له الأخاديد في الأرض لقلة من له فيه حاجة».


ورغم أن أغلب ملاك الماشية في موسم الخريف، يسكبون اللبن في التراب للتخلص منه بعد أن يحلبوه لكي لا يسبب الضرر لضروع الماشية، أو يتركون الدواب من دون حلبها لعدم الحاجة إلى ألبانها وانعدام طريقة للاستفادة منها، فإن الحصول على «لبن الخريف» وشربه يعدّ بالنسبة للسكان القاطنين حلما رفاهية لا يضاهيه أي شيء، بل إنه وسيلة علاج لتجديد الشباب والتخلص من الأمراض المزمنة، لكن لا بد من الرحيل إلى هذا اللبن، ولا بدّ من مصاريف باهظة في أغلب الأحيان.


«حمو» يقدر عدد الموريتانيين الذين يحجون إلى «لبن الخريف» بمليون شخص كل عام، تختلف مدة هذا «الحج» و«طقوسه» بحسب الجهات والتقاليد من جهة، وبحسب مشاغل «شرابة اللبن»، كما يسمى هنا: صيادو «لبن الخريف» يروي «حمّو» قصصا طريفة عن «شرابة لبن الخريف»، خاصة عندما تقل الكميات ويكثر الطلب في بعض المواسم التي يندر فيها الخصب، أو تتغير مهام بعضهم من تتبع «لبن الخريف» إلى تتبع مها البدو الرحل.

 

ليس كل لبن يحلب في فصل الخريف هو «لبن الخريف»، بمعنى أن «لبن الخريف» مصطلح لم يحدد بعد، لكنه مرتبط بسلوكياته وبمواقيت وعادات وقيم لنتكل على الله، ونترك الأمر بيد «حمّو» يحدثنا، وهو يعبر بنا تلال «أتويرجه»، 125 كلم جنوب شرق نواكشوط، عن فوائد «لبن الخريف»، وكأننا نسمع عنها لأول مرة.. يحاول «حموّ» الوصول قبل الغروب إلى ماشية «أهل سيدي عبدالله»، فإذا غابت الشمس قبل تبين الطريق إلى خيام «أهل سيدي عبدالله» فمن شبه المستحيل الاهتداء في هذه الأرض التي يقول «حمّو» إن لها خؤولة من الجنّ، فالوهاد تتشابه هنا في الليلة، فلا يمكنك تمييز أي شيء، وسرعان ما تفقد القدرة على تحديد الاتجاه.


لماذا يختار «حمّو» ماشية «أهل سيدي عبد الله»؟ يجيب الرجلُ العارف ببدو المنطقة «لأن صاحب هذه الماشية لا يستخدم الأدوية البيطرية، لبنه صحي وخال من الأدوية، ماشيته متوارثة وفق سلالات قديمة، ولبنها مبارك وشاف من كل الأمراض، ستجدون عنده العشرات من الباحثين عن لبن الخريف،إنه يمنح اللبن بالمجان، ولديه قطعان كبيرة قادرة على تلبية حاجة ضيوفه، ثم إنه يختار البقاء بعيدا عن المدن والطرق المعبدة، ويختار لماشيته الكلأ في الخلاء حيث لا تلوث»يبتسم «حمّو» حين يشاهد الميسم الذي يميّز قطيع الإبل الذي نمر  قربه، يقول: «إنهم هناك».. وعلى إحدى الربوات جنوب بلدة «أتويرجه»، تتوقف بنا السيارة بين خيام «أهل سيدي عبدالله»، حيث «الزريق» والشاي وابتسامات البدو في انتظار كل الضيوف.

 

يحتفل الشفق بوداع أسطوري للغروب، فيما تقترب قطعان الإبل والبقر والغنم محدثة جلبة أصوات أو سيمفونية هي الأحلى في أذن البدويّ.. هنا نبدأ طقسنا الخاص مع «لبن الخريف». كان قد سبق ذلك جلسة استعلامات سريعة تعرف خلالها مضيفنا على هويتنا ومرادنا.. «لا نعاني من أي أمراض.. تريدُ الصحافة زيادة صحة النفس». هكذا يعلن «حمّو» وهو يبتسمُ لكبير أهل سيد عبد الله.. تعارف الرجلان منذ زمن بعيد.

 

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © موريتانيا لايف
تصميم : يعقوب رضا